مقالات ورأي

لن نكون أغبياء

د. محمد السعيد إدريس

د. محمد السعيد إدريس
mohamed.alsaid.idries@gmail.com
تكشف تطورات الجانب الآخر من الصراع المتفجر على قمة النظام العالمى، وأعنى الصراع الصينى- الأمريكى عن حقيقتين؛ الأولى تؤكد جدية هذا الصراع على أعلى المستويات بما فيها احتمالية الصراع العسكرى بين بكين وواشنطن على نحو ما تكشفه التداعيات التى أخذت تترتب على وجود نية لدى نانسى بيلوسى رئيسة مجلس النواب الأمريكى (الشخصية الثالثة فى ترتيب مكانة السلطة فى الولايات المتحدة بعد الرئيس ونائبته) لزيارة تايوان ضمن جولتها الآسيوية الحالية وتشمل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، والثانية أن هذا الصراع الذى يستهدف، من وجهة نظر الصين، تغيير هيكلية النظام العالمى من نظام آحادى القطبية تتزعمه الولايات المتحدة مدعومة بالتحالف الأطلسى إلى نظام بديل متعدد الأقطاب، سيتطور حتماً وسيطال منظومة القيم السياسية والاقتصادية والثقافية بل والأخلاقية أيضاً التى تحكم النظام العالمى الراهن الذى يعبر بدرجة كبيرة عن خصائص الحضارة الغربية من ناحية وعن أيديولوجية حركة العولمة التى تعد أعلى مراتب تطور النظام الرأسمالى العالمى فى تحالفه مع التكنولوجيا من ناحية أخرى.
يوم الخميس الماضى (28/7/2022) أجرى الرئيسان الصينى تشى جينبينج والأمريكى جو بايدن محادثات، وصفت بأنها “صريحة وعميقة” من وجهة النظر الصينية، استمرت لساعتين حذر خلالها الرئيس الصينى نظيره الأمريكى من “اللعب بالنار” فى شأن تايوان، حيث ترفض الصين بشدة تلك الزيارة المحتملة لرئيس مجلس النواب الأمريكى للجزيرة نظراً لما تحمله من دلالات دعم وتأييد أمريكية لتايوان فى مواجهة الصين. وقال تشى لبايدن، كما نقلت وكالة الأنباء الصينية الجديدة، أن “الذين يلعبون بالنار سيحرقون أنفسهم” مضيفاً “آمل أن يدرك الجانب الأمريكى تماماً هذا الأمر”. جدية هذا التحذير الوارد على لسان الرئيس الصينى فى محادثته الهاتفية مع الرئيس الأمريكى تتأكد من خلال إعلان الجيش الصينى حالة الاستنفار فى صفوفه، كما وجهت قيادته رسالة قوية إلى أعضائه على حسابه الرسمى، تأمرهم بالاستعداد للحرب. وتتكشف أيضاً هذه الجدية من “التغريدة” التى نشرها المعلق الصينى البارز “هو شي جين” السبت الفائت، وحذر فيها من رد عسكرى إذا رافقت المقاتلات الأمريكية طائرة رئيسة مجلس النواب الأمريكى نانسى بيلوسى خلال زيارتها المرتقبة لتايوان.
فى هذه “التغريدة” قال “هو شي جين” إن بيلوسي إذا كانت ستزور تايوان فإن “مقاتلاتنا يجب أن تنفذ جميع التكتيكات الاعتراضية ضدها، وإذا اتضح أن هذه الإجراءات ليست فعّالة أعتقد أنه سيكون من المناسب أيضاً إسقاط طائرة بيلوسي”.
يحدث هذا فى وقت تزداد فيه التكهنات بكثافة فى الأوساط السياسية والإعلامية الغربية (الأمريكية والأوروبية) عن احتمالية غزو الصين لتايوان فى تكرار لسيناريو غزو روسيا لأوكرانيا، وإذا حدث ذلك فإن معناه المباشر أن الصراع على قمة النظام العالمى سيكون قد بلغ ذروته .
المعنى المباشر لذلك أن الصراع سيمتد من كونه صراع استراتيجى (عسكرى – سياسى – اقتصادى) ليصبح أيضاً صراعاً قيمياً، يبدأ من رفض منظومة القيم الغربية المسيطرة على الأيديولوجية الثقافية العالمية، إلى منظومات أخرى بديلة على النحو الذى تحدث عنه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى محاضرته أمام منتدى حوارى فى موسكو (20/7/2022) ، أى قبل أسبوع واحد فقط من المحادثة الهاتفية المشار إليها بين الرئيس الصينى ونظيره الأمريكى. وإذا كان بوتين قد تحدث عن حتمية سقوط “النموذج الغربى” فى إدارة العالم، واستفاض فى شرح معالم “النموذج البديل” للنظام العالمى الجديد المأمول، فإن الصين لا تتوقف، وكذلك روسيا عن رفض منظومة القيم السياسية الغربية، على غرار وصف وزارة الخارجية الصينية “الديمقراطية الأمريكية” بأنها “سلاح دمار شامل” تعليقاً على القمة الافتراضية حول الديمقراطية التى نظمها الرئيس الأمريكى فى ديسمبر الماضى. فقد أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية فى بيان نشر على الإنترنت (11/12/2021) جاء فيه أن “الديمقراطية أصبحت منذ فترة طويلة سلاح دمار شامل تستخدمه الولايات المتحدة للتدخل فى شئون الدول الأخرى”، متهماً واشنطن بـ “إثارة ثورات ملونة فى كثير من الدول”، واعتبر أن قمة الديمقراطية التى نظمها الرئيس الأمريكى ولم يدع الصين للمشاركة فيها، “نظمت لرسم خطوط كراهية أيديولوجية ، والتحريض على الانقسام داخل الدول وتعميق المواجهات الداخلية”.
جاء ذلك فى الوقت الذى كانت قد وجهت فيه الصين تحذيراً قوياً للولايات المتحدة، مؤكدة أنها ستهاجم أى قوات ترسلها واشنطن للدفاع عن جزيرة تايوان رداً على تهديد جيك سوليفان مستشار الأمن القومى الأمريكى حول عدم سماح إدارة الرئيس بايدن بغزو بكين للجزيرة، ونشرت صحيفة “جلوبال تايمز” الصينية الناطقة باسم الحزب الشيوعى الصينى تقريراً ذكرت فيه أن بكين “مستعدة لشن هجوم على أى قوات أمريكية فى حال نشوب نزاع عسكرى فى المنطقة”. وفى تأكيد لجدية هذا التحذير حلقت 12 طائرة حربية صينية فى المجال الجوى لتايوان، بما فى ذلك 8 مقاتلات، وقاذفتان نوويتان، وطائرتا تجسس، وأخرى مضادة للغواصات.
تطورات خطيرة أخذت تفرض نفسها بكل ما تنذر به من جدية حدوث مواجهات عسكرية صينية- أمريكية فى وقت أخذت روسيا تتسيد فيه الموقف فى أوكرانيا، وفى وقت تزداد فيه ضغوط الغاز الروسية على أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء منذرة بتمرد أوروبى محتمل ضد الولايات المتحدة .
ما هى انعكاسات هذا كله على دول العالم الثالث، التى حملت فى زمن ما اسم “دول عدم الانحياز” وفى القلب منها دولنا العربية؟ هل سيتجدد إحياء سياسة عدم الانحياز مع تصاعد احتمالات حدوث حرب باردة جديدة كأحد احتمالات التصعيد الراهنة؟ أم سيكون على هذه الدول أن تنحاز فى الصراع إلى جانب الطرف الأكثر دعماً لقضاياها ومصالحها؟
أجاب على هذا السؤال الرئيس الأوغندى يوسف موسيفينى فى لقائه الأسبوع الفائت مع سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسى الذى قام بجولة أفريقية عقب انتهاء زيارته للقاهرة ولقائه بالمندوبين الدائمين فى جامعة الدول العربية. حيث قال “غفرنا لمن استعبدنا فكيف نقف ضد من ساعدنا” ، فى إشارة للتمييز بين سياسات الغرب وسياسات روسيا (الاتحاد السوفيتى والصين) نحو الدول الأفريقية.
وجه الرئيس الأوغندى حديثه للوزير الروسى قائلاً: “على الرغم من أنه لم يقم أى زعيم رفيع المستوى من روسيا (حتى الآن) بزيارتنا، فقد دعمت روسيا على مدى المائة عام الماضية الحركة المناهضة للاستعمار فى أفريقيا. أخبرتكم خلال حديثنا الشخصى، أن استعمار القارة الأفريقية بأكملها قد اكتمل بحلول عام 1900، باستثناء أثيوبيا وحدها، كان ضعفنا هو أحد الأسباب التى أدت إلى استعمار أفريقيا. كان الحكم فى أيدى الأقطاعيين غير القادرين على الدفاع عن استقلالنا. دمرت تجارة الرقيق لمائة عام قارتنا، قبل الانتهاء من التقسيم الاستعمارى لأفريقيا”. واختتم الرئيس الأوغندى حديثه بالإجابة عن سؤالنا حول الموقف من الصراع الراهن على قمة النظام العالمى قائلاً: “سألونى ذات مرة، فى فترة الحرب الباردة: هل أنت مع الشرق أم مع الغرب؟ أجبت بأن من يسألنى ربما يعتبرنى غبياً. ما السبب الذى يجعل شخصاً ما يقرر أن مهمتى الأساسية تتمثل فى الانحياز إلى طرف ما؟ أنا أدافع عن مصالحى الخاصة، وأقيم علاقاتى مع الآخرين، بناء على كيفية تأثيرهم على مصالحى”.
إجابة تحسم لنا سؤال: من أين نبدأ، ووفق أى اختيارات ستتحدد انحيازاتنا: أن نتحرر أم نظل تابعين؟ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى